جريدة الرياض - 11/7/2025 1:01:47 AM - GMT (+3 )
التوسع في البطولات لم يأتِ بدافع رياضي بحت بل بقرار تجاري
شركات التأمين تسجيل أربعة آلاف إصابة في الدوريات الأوروبية الكبرى في موسم 2023-2024
الدراسات الأكاديمية تظهر أن ضغط المباريات يقلص فرص التعافي
إصابات 55 في المئة من اللاعبين تعود إلى ضغط المباريات وكثرة السفر الدولي
لم تعد كرة القدم الحديثة كما كانت قبل عقدٍ من الزمن، اللعبة التي لطالما ما مثّلت مساحة للمتعة والروح الجماهيرية إلى أن بدأت بالتحول تدريجيًا إلى منظومة اقتصادية ضخمة تدار بالثواني والدقائق، حتى صار جدول المباريات مزدحمًا على نحو غير مسبوق، فاليوم يعيش اللاعبون والأندية سباقًا مع الزمن، بينما تكشف الأرقام عن ظاهرة مقلقة باتت تهدّد البنية الجسدية والمالية للمنظومة الكروية بأكملها.
في السنوات الأخيرة اتسعت رقعة المنافسات القارية وتضاعف عدد المشاركات الدولية للأندية الكبرى، اللاعب الذي كان يخوض سابقًا ما بين أربعين وخمسين مباراة في الموسم، أصبح اليوم يشارك في أكثر من سبعين مباراة بين بطولات الدوري والكؤوس المحلية، والمنافسات الأوروبية والدولية، تقرير صادر عن الاتحاد الدولي للاعبين المحترفين (FIFPRO) أشار إلى أن بعض لاعبي الصف الأول تجاوزوا هذا الحد، وهو ما وصفته المنظمة بأنه «عبء غير مستدام» يهدد سلامة اللاعبين النفسية والبدنية، وهذا الضغط والتراكم لم يأتِ دون ثمن مجزي، إذ تشير تقارير شركة التأمين البريطانية Howden إلى تسجيل أكثر من 4123 إصابة في الدوريات الأوروبية الكبرى خلال موسم 2023-2024، بزيادة بلغت أربعة في المئة عن الموسم السابق، وبكلفة مالية قاربت 732 مليون يورو، وهو رقم قياسي في تاريخ اللعبة الحديثة.
الأرقام وحدها لا تروي القصة كاملة فالدراسات الأكاديمية كذلك تظهر بوضوح وبشكل جلي كيف أن ضغط المباريات يقلص فرص التعافي، ويضاعف احتمالات الإصابة، ففي بحثٍ منشور في المجلة الطبية البريطانية للطب الرياضي أظهر أن الفرق التي تخوض مباريات بفاصل أربعة أيام أو أقل تواجه زيادة بنسبة تتجاوز 30 في المئة في الإصابات العضلية مقارنة بتلك التي تنال فترات راحة أطول، وفي دراسة أخرى أُجريت على 27 فريقًا أوروبيًا على مدى 11 موسمًا، أظهرت النتائج أن فترات الاستشفاء القصيرة تؤدي إلى تراجع الأداء وارتفاع نسب الغياب بسبب الإصابات، أما من الناحية النفسية فقد أظهرت بيانات منشورة في منصة PMC أن نحو 55 في المئة من اللاعبين الذين تعرّضوا لإصابات خلال الموسمين الماضيين، ربطوا أسبابها المباشرة بضغط المباريات وكثرة السفر الدولي.
تأثير هذا الواقع لا يقف عند حدود العشب الأخضر، بل يمتد إلى غرف الاجتماعات والحسابات البنكية للأندية، ففي الدوري الإنجليزي الممتاز وحده بلغت تكلفة الإصابات خلال الموسم ذاته نحو 318.8 مليون يورو، أي ما يعادل تقريبًا نصف إجمالي الخسائر في الدوريات الأوروبية الخمس الكبرى، وبحسب تقرير Howden نفسه فإن كل إصابة تكلّف النادي في المتوسط أكثر من 170 ألف يورو عن كل مباراة يغيبها اللاعب المصاب، وهو رقم يضع الإدارات الفنية والمالية أمام معادلة معقدة بين الحاجة للمنافسة في كل الجبهات، والرغبة في الحفاظ على توازن الفريق وصحة لاعبيه.
لكن ما يجعل هذه الأزمة أكثر تعقيدًا هو ارتباطها المباشر بالبنية الاقتصادية الجديدة لكرة القدم، فالتوسع في البطولات لم يأتِ بدافع رياضي بحت بل بقرار تجاري، حيث أن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم قرّر العام الماضي زيادة عدد الفرق في دوري الأبطال والدوري الأوروبي، ما يعني مزيدًا من المباريات ومزيدًا من عوائد البث والرعاية غير أن هذا التوسع ضغط الجداول المحلية إلى أقصى الحدود، ودفع روابط الدوريات إلى التضحية ببعض التقاليد التاريخية من أجل استيعاب الكم الهائل من المنافسات، وأبرز تلك التقاليد التي باتت ضحية هذا التحول هو يوم «البوكسينغ داي»، المناسبة التي تُعد جزءًا من الهوية الكروية في إنجلترا منذ أكثر من قرن.
ففي خطوة وُصفت بأنها نهاية لحقبة، أعلن الدوري الإنجليزي الممتاز أن موسم 2025-2026 سيشهد إقامة مباراة واحدة فقط يوم السادس والعشرين من ديسمبر، بين مانشستر يونايتد ونيوكاسل يونايتد، بينما ستُرحّل بقية المباريات إلى اليومين التاليين، إلا أن القرار الذي أثار استغراب الجماهير لم يكن وليد الصدفة، إذ أوضحت رابطة الدوري أن السبب يعود إلى «ضيق المساحة الزمنية» الناتجة عن التوسعات الأوروبية، وصعوبة إيجاد 33 عطلة أسبوعية ضمن موسم مكتظ بالمباريات، وبذلك تحول يوم كان يعد رمزًا للفرجة العائلية والدفء الشتوي إلى ذكرى تُطوى في سجلات الماضي، بعدما خضع هو الآخر لمنطق الجدولة التجارية.
ومن هنا تبدو المفارقة جلية، فاللعبة التي بنت مجدها على تقاليدها الجماهيرية بدأت تفقد تلك التقاليد باسم التنظيم الحديث وبينما تزداد أرباح النقل التلفزيوني وتوسّع الشركات رعاياتها، يدفع اللاعب ثمنًا جسديًا والنادي ثمنًا ماليًا والجماهير ثمنًا وجدانيًا، وما يحدث في إنجلترا ليس سوى نموذج مصغر لتحول عالمي؛ فالاتحاد الدولي نفسه أقرّ إقامة كأس العالم للأندية بشكله الجديد بمشاركة 32 فريقًا اعتبارًا من النسخة الماضية، ما يعني مزيدًا من الرحلات ومزيدًا من المباريات في روزنامة بالكاد تحتمل ما فيها.
أمام هذا المشهد، تتصاعد الدعوات داخل الأوساط الرياضية للمراجعة وإعادة التوازن بين المتطلبات التجارية وحق اللاعبين في الراحة، فمنظمة FIFPRO اقترحت تحديد سقف أقصى لعدد المباريات التي يمكن أن يخوضها اللاعب في الموسم الواحد، مع فرض حد أدنى لفترات التعافي لا تقل عن خمسة أيام بين اللقاءات، وهي توصية تدعمها العديد من الدراسات الطبية في المقابل، ترى روابط الدوريات أن الحل لا يمكن أن يكون محليًا فحسب، لأن الخلل في الأصل نابع من تداخل الأجندات القارية والدولية وتضاربها، وهو ما يتطلب تنسيقًا دوليًا يضمن توزيعًا أكثر عدلًا للمسابقات على مدار العام.
غير أن العقبة الكبرى تظل في الإرادة الاقتصادية التي تحكم اللعبة اليوم، فالشركات الراعية وشبكات البث لا تنظر إلى كرة القدم كرياضة فقط بل كمنتج عالمي تُقاس قيمته بعدد الدقائق المشاهدة لا بعدد دقائق الراحة التي ينالها اللاعب وهنا تكمن المعضلة فمنطق السوق لا يترك مجالًا لمنطق الإنسان، حتى في لعبة يفترض أن جوهرها إنساني بامتياز.
قد لا يكون اختفاء يوم البوكسينغ داي حدثًا معزولًا، بل ربما بداية لموجة تغيّرات أعمق ستطال طريقة إدارة الموسم الكروي بأكمله، فما جرى في إنجلترا اليوم قد يحدث في بطولات أخرى غدًا عندما تتقاطع مصالح الاتحادات القارية مع أجندات البث والرعاة، وإذا لم تُضبط هذه المعادلة فقد نصل إلى لحظة تصبح فيها كرة القدم مجرد بث متواصل دون روح أو ذاكرة، حيث تُستبدل المتعة بالروتين، والفرجة بالتعب.
ومع أن الأرقام تبدو جافة ومقلقة، إلا أنها تروي حكاية أوسع عن اللعبة التي تفقد توازنها تحت وطأة تسارعها فكل إصابة وكل جدول مزدحم وكل تقليد يُلغى هو إشارة إلى أن كرة القدم المعاصرة تقف عند مفترق طرق إما أن تستعيد توازنها وتعيد ترتيب أولوياتها بين التنافس والصحة بين العائدات والإنسان أو تمضي في طريقها نحو الاحتراف المفرط الذي قد يقتل جوهرها قبل أن يرفع قيمتها السوقية.
إقرأ المزيد


