جريدة الرياض - 12/5/2025 1:26:39 AM - GMT (+3 )
رسالة ترمب.. محاولة لتثبيت القيادة الإسرائيلية وليست مجاملة سياسية
يشهد الشارع الإسرائيلي أزمات متلاحقة، منها محاكمة بنيامين نتنياهو، والتي تحولت من ملف قضائي تقليدي إلى مظلة واسعة تتقاطع تحتها معارك السلطة وصراعات الأحزاب وحسابات الشارع وقلق المؤسسات وتقييمات مراكز الفكر في الداخل والخارج ولعل القراءة المتأنية لهذه المحاكمة تكشف انها ليست مجرد اتهامات موجهة إلى رئيس وزراء في منصبه بل اختبار يشمل بنية النظام السياسي الإسرائيلي وقدرته على الفصل بين القانون والسياسة في لحظة هي الأكثر اضطراباً منذ 70 سنة.
بداية المحاكمة
بدأت قصة المحاكمة، حين تحولت سلسلة من التحقيقات إلى ملفات مكتملة تحمل اتهامات تتعلق بتلقي منافع شخصية عبر علاقات مع رجال اعمال والحصول على تغطيات إعلامية تفضيلية مقابل قرارات تنظيمية، كما تضمنت ملفات اخرى شبهات تتعلق باستخدام النفوذ العام لتعزيز مكانة سياسية شخصية وفي اللحظة التي أرسلت فيها النيابة لائحة الاتهام، بدا وكأن إسرائيل تدخل مرحلة جديدة تختلف عن كل ما سبق فهذه هي المرة الاولى التي يمثل فيها رئيس وزراء في منصبه أمام القضاء في اتهامات بهذا الحجم.
عندما انطلقت جلسات المحكمة في تل أبيب توافد محامو الدفاع وجماعات الضغط والمراقبون من الصحافة العالمية لتسجيل واحدة من أطول وأعقد المحاكمات التي شهدتها إسرائيل في تاريخها القضائي وتتابعت الجلسات في فصول متسارعة تضمنت سماع عدد من الشهادات التي قدمها مقربون من نتنياهو ومسؤولون سابقون وإعلاميون ورجال اعمال بمن فيهم من شغلوا مناصب مؤثرة داخل حكومات سابقة.
وبين كل جلسة وأخرى انكشف مزيد من التفاصيل المتعلقة بدائرة العلاقات التي كانت محور الاتهامات وشيئا فشيئا أصبحت المحكمة مسرحا لصراع مختلف تماما حيث اعتبر فريق الدفاع ان التهم مسيسة وان جهات مؤثرة في مؤسسات الدولة تسعى إلى إسقاط نتنياهو عبر القضاء بينما أصرت النيابة على ان الملفات تعتمد على أدلة موثقة وتحقيقات مطولة شاركت فيها جهات رقابية مختلفة.
الانقسام السياسي
ومع تقدم الجلسات بدأت ملامح الانقسام السياسي في إسرائيل تتجلى بصورة أوضح فالأحزاب الداعمة لنتنياهو خصوصا الأحزاب اليمينية والدينية رأت في المحاكمة هجوما على إرادة الناخبين ومحاولة لاستخدام أدوات القانون من اجل حسم معركة سياسية كانوا عاجزين عن حسمها في صناديق الاقتراع واعتبرت ان نتنياهو يتعرض لحملة منظمة تستهدف إقصاءه عن القيادة رغم شعبيته في قواعد اليمين. على الجانب الآخر تعاملت أحزاب الوسط واليسار مع المحاكمة بوصفها تطبيقا مباشرا لمبدأ سيادة القانون وان الدولة يجب ان تبقى أعلى من أي زعيم مهما بلغت قوته السياسية ورأت تلك القوى ان استمرار نتنياهو في رئاسة الحكومة رغم الاتهامات يضعف الثقة في المؤسسات ويمنح انطباعا خطيرا بأن القادة السياسيين يمكنهم الإفلات من المساءلة.
المشهد داخل المجتمع الإسرائيلي
أما داخل المجتمع الإسرائيلي فقد بدا المشهد أكثر تعقيداً إذ انقسام الجمهور لم يكن مجرد انحياز حزبي بل تداخلت معه اعتبارات أمنية ومعيشية واقتصادية فهناك فئة واسعة رأت ان استمرار محاكمة رئيس حكومة في ظل ظروف إقليمية متوترة يشكل عبئا على الدولة ويعطل قدرتها على اتخاذ قرارات حيوية بينما رأى آخرون ان إسرائيل لن تكون دولة قانون ان لم تتمكن من محاكمة أقوى الرجال فيها بمن فيهم رئيس الوزراء نفسه.
وفي الميادين والساحات خرجت مظاهرات متقابلة فهناك من رفع لافتات تطالب بمحاكمة حازمة وسريعة وهناك من اعتبر ان المحاكمة جزء من انقلاب ناعم يستهدف اليمين السياسي وسعت بعض الجماعات إلى تقديم نتنياهو بصفته رمزا لاستقرار الدولة في مواجهة ما يسمونه مؤسسات غير منتخبة تفرض إرادتها على الطبقة السياسية المنتخبة.
تأثير المحاكمة على بنية الدولة
في موازاة ذلك لعبت مراكز البحث والدراسات دوراً مهماً في تحليل تأثير المحاكمة على بنية الدولة وسياساتها فبعض هذه المراكز رأى ان المحاكمة تمثل اختبارا حقيقيا لاستقلالية السلطة القضائية وقدرتها على العمل دون ضغوط سياسية بينما حذر آخرون من ان انشغال القيادة السياسية بملف قضائي بهذا الحجم يمكن ان ينعكس سلبا على قدرات إسرائيل في الملفات العسكرية والدبلوماسية خاصة في ظل العلاقات الحساسة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
قراءات متعددة للمشهد
الصحف الأميركية بدورها قدمت قراءات متعددة للمشهد فمنها من ركز على ان المحاكمة تعكس قوة المؤسسات في إسرائيل وقدرتها على مساءلة أعلى المستويات ومنها من اعتبر ان القضية تكشف تصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي قد تتعمق اذا ما استمرت المعركة القضائية لسنوات اخرى ورأت بعض الصحف ان إسرائيل تواجه تحديا يتجاوز شخص نتنياهو ويتعلق بالتوازن بين السلطات في دولة لم تتبن حتى الآن دستورا رسميا واضح المعالم.
كل هذه الآراء جعلت من المحاكمة حدثا يتجاوز حدود الجلسات القضائية فقد أثرت بشكل مباشر على علاقة الحكومة بالجيش وعلى مستوى الثقة داخل الجهاز الأمني وحتى داخل الائتلاف الحاكم نفسه ظهرت خلافات بشأن كيفية التعامل مع الضغط المتزايد على نتنياهو وطبيعة الخطوات المطلوبة للحفاظ على تماسك الحكومة.
المحاكمة والملفات السياسية
تداخل المشهد أكثر حين قدم محامو نتنياهو سلسلة طلبات للتأجيل بذريعة ارتباطه بملفات أمنية وعمليات عسكرية حساسة فيما رأت المحكمة ان تلك الطلبات هدفها إطالة أمد المحاكمة وقررت تكثيف الجلسات لتسريع إجراءات التقاضي وقد أثارت قرارات المحكمة ردود فعل متباينة بين من اعتبرها حماية لهيبة القضاء وبين من رأى انها تجاهل لاعتبارات الأمن القومي.
ومع اقتراب مرحلة الحسم أصبح الرأي العام أكثر انقساما فهناك من يعتقد ان إدانة نتنياهو قد تؤدي إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية بالكامل وربما إجراء انتخابات مبكرة فيما يخشى آخرون من ان تؤدي البراءة إلى تعزيز نفوذ قوى اليمين بطريقة قد تفتح الباب امام تعديلات قضائية واسعة يمكن ان تغير شكل النظام السياسي برمته.
المواجهات داخل الكنيست
داخل الكنيست تزايدت المواجهات الكلامية بين أعضاء المعارضة والائتلاف، فالمعارضة اتهمت نتنياهو بمحاولة الهروب من المحاكمة عبر خطوات سياسية وتشريعية بينما اتهم الائتلاف المعارضة بالسعي لإسقاط حكومة منتخبة عبر استغلال القضاء والشارع ووسائل الإعلام وامتد هذا الجدل إلى المنابر الإعلامية حيث انقسم المعلقون بين من ينظر إلى نتنياهو كعبء سياسي يجب رفعه ومن يراه زعيما مستهدفا من قبل مؤسسات لا تريد لليمين ان يستمر في السلطة.
ومع كل ذلك فإن المؤسسات الإسرائيلية تجد نفسها أمام تحدي التوفيق بين متطلبات الأمن وحاجات السياسة واستقلال القضاء وقد بدا واضحا ان هذه المحاكمة تسلط الضوء على مأزق هيكلي يواجه إسرائيل اذ ان النظام السياسي يعتمد على تحالفات هشة لا تستقر طويلا بالإضافة إلى صراع دائم بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية.
في الوقت ذاته يتساءل المتابعون حول قدرة الدولة على الاستمرار في إدارة ملفات معقدة مثل الاستيطان والعلاقات الإقليمية والتوترات العسكرية بينما رئيس حكومتها يخضع لاستجواب في المحكمة وهو ما فسره بعض الباحثين بأنه قد يؤثر على موقع إسرائيل التفاوضي في عدد من الملفات الدولية.
نتنياهو مذنب أم بريء
وفي هذه المرحلة لم يعد السؤال حول ما إذا كان نتنياهو مذنباً أو بريئاً هو محور النقاش الرئيس بل أصبح السؤال الأهم هو ماذا يعني مستقبل هذه المحاكمة على شكل الحكم في إسرائيل وعلى التوازن بين السلطات وعلى ثقة المجتمع بالمؤسسات وعلى قدرة الدولة على تجاوز إرث الانقسامات الداخلية.
تكشف محاكمة نتنياهو أن إسرائيل تدخل مرحلة سياسية جديدة عنوانها صراع بين نموذجين الأول يرى ان الدولة يجب ان تبقى محكومة بقواعد قانونية صارمة لا تستثني أحدا مهما كان منصبه والثاني يرى ان الدولة يجب ان تحمي قيادتها السياسية من الاستهداف المستمر عبر القضاء والإعلام حتى تتمكن من الحفاظ على استقرارها الأمني والسياسي.
هوية الدولة ومستقبلها
الملف ليس مجرد اتهامات جنائية بل هو انعكاس لصراع عميق حول هوية الدولة ومستقبلها فكل طرف يرى ان تلك المحاكمة تحدد مصير مشروعه السياسي والمؤسسي على المدى البعيد وقد وصلت الحالة إلى درجة أن مصير الحكومة نفسها بات مرهوناً بنتائج المحاكمة.
إن أي حكم سيصدر في هذه القضية لن يكون نهاية الطريق بل بداية مرحلة جديدة ستحتاج فيها إسرائيل إلى إعادة بناء ثقة الجمهور بالمؤسسات ووضع قواعد واضحة للعلاقة بين القيادة السياسية والجهاز القضائي وتحديد حدود المسموح والممنوع في ممارسة النفوذ العام. وبينما تستمر المحاكمة في مسارها الطويل فإن تأثيرها على الواقع السياسي الإسرائيلي أصبح واقعا ملموسا اذ ان الدولة بكل أجهزتها أصبحت تدور في فلكها مما يجعلها واحدة من أهم المحاكمات السياسية والقضائية في المنطقة وقد تحدد نتائجها مستقبل الحياة السياسية في إسرائيل لسنوات طويلة قادمة.
رسالة ترمب قلبت الموازين
جاء طلب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الرئيس الإسرائيلي منح العفو لبنيامين نتنياهو ليشكل حدثاً سياسياً بارزاً في سياق شديد التعقيد حيث تداخلت الحرب في غزة مع تداعيات الملف القضائي لنتنياهو وجعلت الرسالة نفسها جزءا من مشهد حساس تتفاعل فيه الحسابات الداخلية الإسرائيلية مع المواقف الدولية بصورة مباشرة وغير مسبوقة. الملفت في الرسالة انها صدرت من رئيس أميركي يتابع تفاصيل الازمة الإسرائيلية ويملك تأثيراً سياسياً مباشراً على تل أبيب وهو ما منح هذه الخطوة وزنا يتجاوز طابعها الرمزي لتتحول إلى رسالة سياسية تدفع الإسرائيليين للتساؤل حول حقيقة مستقبل محاكمة نتنياهو وحول ما اذا كانت واشنطن بدأت تنظر للملف باعتباره قضية تمس استقرار إسرائيل في لحظة حرب مفتوحة. في الداخل الإسرائيلي تباينت القراءات حول مغزى طلب ترمب فتيار اليمين المقرب من نتنياهو اعتبر الرسالة دليلا على أن قضية الاتهامات ليست منفصلة عن المناخ السياسي وان وجود دعم أميركي بهذا المستوى يعزز سردية الاستهداف التي يتبناها نتنياهو منذ بداية التحقيقات بينما رأى خصومه السياسيون أن تدخل ترمب يمثل مساساً باستقلالية النظام القضائي ومحاولة للالتفاف على مسار قانوني ما زال مفتوحاً ويعكس واحدة من اهم القضايا المرتبطة بنزاهة الحكم في إسرائيل. الشارع الإسرائيلي بدوره تلقى الرسالة بانقسام واضح فالفئة المؤيدة لنتنياهو تعاملت معها بوصفها اشارة دعم قوية من الحليف الاكبر وانها تكشف مكانة نتنياهو في السياسة الدولية رغم الحرب الدائرة بينما اعتبر خصومه ان الرسالة تؤكد ان قضية نتنياهو لم تعد شأنا داخليا بل تحولت إلى عبء سياسي يهدد صورة اسرائيل ويمس ثقة الجمهور بمؤسسات الدولة.
على المستوى الدولي أثارت الرسالة اهتماماً واسعاً فقد نظرت عواصم عدة إلى خطوة ترمب باعتبارها تعبيرا عن رغبة أميركية في منع اهتزاز الساحة الإسرائيلية خلال الحرب على غزة وأن استمرار المحاكمة قد يفتح الباب امام أزمة قيادة في وقت تحتاج فيه واشنطن إلى حكومة إسرائيلية قادرة على التنسيق العسكري والسياسي معها وتجنب أي فراغ او فوضى داخلية.
حرب غزة وتأثيرها
من جانب آخر أضافت حرب غزة بعداً مهماً إلى المحاكمة اذ تحولت جلساتها إلى محور نقاش واسع حول مسؤولية نتنياهو السياسية في ادارة الحرب وما اذا كانت الاخطاء التي سبقت السابع من أكتوبر أسهمت في تراجع الثقة به وتركت اثراً مباشراً على موقف المحاكم والرأي العام وقد رأى محللون في تل ابيب أن الحرب ساهمت في تضخيم الضغوط على نتنياهو وأها ساعدت في تسريع الانتقادات الموجهة اليه من داخل المؤسسة الامنية التي بدأت تظهر مواقف اكثر صراحة بشأن مسؤولية القيادة السياسية.
مجاملة سياسية
أما الصحف الأميركية فقد تناولت رسالة ترمب من زاوية تتعلق بمستقبل العلاقة بين إدارته وتل أبيب حيث ربط بعضها بين توقيت الرسالة وتصاعد الخلافات داخل الكابينيت الإسرائيلي وبين ارتباك المشهد السياسي في تل ابيب فيما اشارت تحليلات اخرى إلى أن ترمب يدرك أن محاكمة نتنياهو قد تتحول إلى نقطة ضعف داخلية تؤثر على مسار العمليات في غزة وعلى التعاون الاستراتيجي بين الجانبين الامر الذي يجعل موقفه اقرب إلى محاولة تثبيت القيادة الإسرائيلية وليس مجرد مجاملة سياسية.
وتذهب مراكز بحث دولية إلى ان طلب العفو يكشف حجم التداخل بين السياسة والقضاء في إسرائيل حيث اصبحت محاكمة نتنياهو مرآة تعكس التصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي واختبارا لمدى صلابة النظام السياسي في مواجهة الأزمات المتراكمة واضافت هذه المراكز أن الحرب زادت من حساسية الملف ووضعت القيادة الإسرائيلية في دائرة التدقيق الدولي وهو ما عزز الضغط على المؤسسة القضائية الإسرائيلية وجعلها في قلب المشهد السياسي.
إقرأ المزيد


